كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه الآية من ذلك فهي حجة بتنظير رسالة محمد برسالة موسى عليهما الصلاة والسلام والمقصود منها ذكر القرون الأولى.
وأما ذكر إهلاكهم فهو إدماج للنذارة في ضمن الاستدلال.
وجملة {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} تخلص من قصة بعثة موسى عليه السلام إلى تأييد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم والمقصود قوله من بعد القرون الأولى.
ثم إن القرآن أعرض عن بيان حكمة الفِتَر التي تسبق إرسال الرسل، واقتصر على بيان الحكمة في الإرسال عقبها لأنه المهم في مقام نقض حجة المبطلين للرسالة أو اكتفاء بأن ذلك أمر واقع لا يستطاع إنكاره وهو المقصود هنا، وأما حكمة الفصل بالفِتر فشيء فوق مراتب عقولهم.
فأشار بقوله إلى بيان حكمة الإرسال عقب الفترة.
وأشار بقوله: {من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} إلى الأمم التي استأصلها الله لتكذيبها رسل الله.
فتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين لوقوع ذلك حتى يحتاج معهم إلى التأكيد بالقسم، فموقع التأكيد هو قوله: {من بعد ما أهلكنا القرون الأولى}.
و{الكتاب} التوراة التي خاطب الله بها موسى عليه السلام.
والبصائر: جمع بصيرة، وهي إدراك العقل.
سُمي بصيرة اشتقاقًا من بصر العين، وجُعل الكتاب بصائر باعتبار عدة دلائله وكثرة بيّناته، كما في الآية الأخرى قال: {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والأرض بصائر} [الإسراء: 102].
و{القرون الأولى} قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط.
والقرن: الأمة، قال تعالى: {كم أهلكنا من قبلهم من قرن} [الأنعام: 6].
وفي الحديث «خير القرون قرني».
والناس هم الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل وقوم فرعون، ولمن يريد أن يهتدي بهديه مثل الذين تهودوا من عرب اليمن، و{هدى ورحمة} لهم، ولمن يقتبس منهم قال تعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور} [المائدة: 44].
ومن جملة ما تشتمل عليه التوراة تحذيرها من عبادة الأصنام.
وضمير {لعلهم يتذكرون} عائد إلى الناس الذين خوطبوا بالتوراة، أي فكذلك إرسال محمد لكم هدى ورحمة لعلكم تتذكرون.
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44)}.
لما بطلت شبهتهم التي حاولوا بها إحالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم نُقل الكلام إلى إثبات رسالته بالحجة الدامغة؛ وذلك بما أعلمه الله به من أخبار رسالة موسى مما لا قبل له بعلمه لولا أن ذلك وحي إليه من الله تعالى.
فهذا تخلص من الاعتبار بدلالة الالتزام في قصة موسى إلى الصريح من إثبات نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم.
وجيء في الاستدلال بطريقة المذهب الكلامي حيث بُني الاستدلال على انتفاء كون النبي عليه الصلاة والسلام موجودًا في المكان الذي قضى الله فيه أمر الوحي إلى موسى، لينتقل منه إلى أن مثله ما كان يعمل ذلك إلا عن مشاهدة لأن طريق العلم بغير المشاهدة له مفقود منه ومن قومه إذ لم يكونوا أهل معرفة بأخبار الرسل كما كان أهل الكتاب، فلما انتفى طريق العلم المتعارف لأمثاله تعين أن طريق علمه هو إخبار الله تعالى إياه بخبر موسى.
ولما كان قوله: {وما كنت بجانب الغربي} نفيًا لوجوده هناك وحضوره تعين أن المراد من الشاهدين أهل الشهادة، أي الخبر اليقين، وهم علماء بني إسرائيل لأنهم الذين أشهدهم الله على التوراة وما فيها، ألا ترى أنه ذمهم بكتمهم بعض ما تتضمنه التوراة من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله} [البقرة: 140].
والمعنى ما كنت من أهل ذلك الزمن ولا ممن تلقى أخبار ذلك بالخبر اليقين المتواتر من كتبهم يومئذ فتعين أن طريق علمك بذلك وحي الله تعالى.
والأمر المقضي: هو أمر النبوءة لموسى إذ تلقاها موسى.
وقوله: {بجانب الغربي} هو من إضافة الموصوف إلى صفته، وأصله بالجانب الغربي، وهو كثير في الكلام العربي وإن أنكره نحاة البصرة وأكثروا من التأويل، والحق جوازه.
والجانب الغربي هو الذي ذكر آنفًا بوصف {شاطىء الواد الأيمن} [القصص: 30] أي على بيت القبلة.
{وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45)}.
خفي اتصال هذا الاستدراك بالكلام الذي قبله وكيف يكون استدراكًا وتعقيبًا للكلام الأول برفع ما يتوهم ثبوته.
فبيانه أن قوله: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} [القصص: 43] مسوق مساق إبطال تعجب المشركين من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حين لم يسبقها رسالة رسول إلى آبائهم الأولين، كما علمت مما تقدم آنفًا، فذكرهم بأن الله أرسل موسى كذلك بعد فترة عظيمة، وأن الذين أرسل إليهم موسى أثاروا مثل هذه الشبهة فقالوا {ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} [القصص: 36] فكما كانت رسالة موسى عليه السلام بعد فترة من الرسل كذلك كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى: فكان المشركون حقيقين بأن ينظروا رسالة محمد برسالة موسى ولكن الله أنشأ قرونًا أي أممًا بين زمن موسى وزمنهم فتطاول الزمن فنسي المشركون رسالة موسى فقالوا {ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة} [ص: 7].
وحذف بقية الدليل وهو تقدير: فنسوا، للإيجاز لظهوره من قوله: {فتطاول عليهم العمر} كما قال تعالى عن اليهود حين صاروا يحرفون الكلم عن مواضعه {ونسوا حظًا مما ذكروا به} [المائدة: 13]، وقال عن النصارى {أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًا مما ذكروا به} [المائدة: 14] وقال لأمة محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ: {ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم} [الحديد: 16]، فضمير الجمع في قوله: {عليهم} عائد إلى المشركين لا إلى القرون.
فتبين أن الاستدراك متصل بقوله: {ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى} [القصص: 43] وأن ما بين ذلك وبين هذا استطراد.
وهذا أحسن في بيان اتصال الاستدراك مما احتفل به صاحب الكشاف.
ولله دره في استشعاره، وشكر الله مبلغ جهده.
وهو بهذا مخالف لموقع الاستدراكين الآتيين بعده من قوله: {ولكنا كنا مرسلين} وقوله: {ولكن رحمة من ربك} [القصص: 46].
و{العمر} الأمد كقوله: {فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله} [يونس: 16].
{وَمَا كُنتَ ثَاوِيًا في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ ءاياتنا وَلَكِنَّا مرسلين}.
هذا تكرير للدليل بمثل آخر مثل ما في قوله: {وما كنت بجانب الغرب} [القصص: 44] أي ما كنت مع موسى في وقت التكليم ولا كنت في أهل مدين إذ جاءهم موسى وحدث بينه وبين شعيب ما قصصنا عليك.
والثواء: الإقامة.
وضمير {عليهم} عائد إلى المشركين من أهل مكة لا إلى أهل مدْيَن لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتلو آيات الله على المشركين.
والمراد بالآيات، الآيات المتضمنة قصة موسى في أهل مدين من قوله: {ولما توجه تلقاء مدين} إلى قوله: {فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله} [القصص: 22- 29].
وبمثل هذا المعنى قال مقاتل وهو الذي يستقيم به نظم الكلام، ولو جعل الضمير عائدًا إلى أهل مدين لكان أن يقال: تشهد فيهم آياتنا.
وجملة {تتلو عليهم آياتنا} على حسب تفسير مقاتل في موضع الحال من ضمير {كنت} وهي حال مقدرة لاختلاف زمنها مع زمن عاملها كما هو ظاهر.
والمعنى: ما كنت مقيمًا في أهل مدين كما يقيم المسافرون فإذا قفلوا من أسفارهم أخذوا يحدثون قومهم بما شاهدوا في البلاد الأخرى.
والاستدراك في قوله: {ولكنا كنا مرسلين} ظاهر، أي ما كنت حاضرًا في أهل مدين فتعلم خبر موسى عن معاينة ولكنا كنا مرسلينك بوحينا فعلّمناك ما لم تكن تعلمه أنت ولا قومك من قبل هذا.
وعدل عن أن يقال: ولكنا أوحينا بذلك، إلى قوله: {ولكنا كنا مرسلين} لأن المقصد الأهم هو إثبات وقوع الرسالة من الله للرد على المشركين في قولهم وقول أمثالهم {ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} [القصص: 36] وتعلم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة الالتزام مع ما يأتي من قوله: {ولكن رحمة من ربك لتنذر قومًا} [القصص: 46] الآية فالاحتجاج والتحدي في هذه الآية والآية التي قبلها تحد بما علمه النبي عليه الصلاة والسلام من خبر القصة الماضية.
{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46)}.
جانب الطور: هو الجانب الغربي، وهو الجانب الأيمن المتقدم وصفه بذينك الوصفين، فعري عن الوصف هنا لأنه صار معروفًا، وقيد الكون المنفي بظرف {نادينا} أي بزمن ندائنا.
وحذف مفعول النداء لظهور أنه نداء موسى من قبل الله تعالى وهو النداء لميقات أربعين ليلة وإنزال ألواح التوراة عقب تلك المناجاة كما حكي في الأعراف وكان ذلك في جانب الطور إذ كان بنو إسرائيل حول الطور كما قال تعالى: {يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الأيمن} [طه: 80] وهو نفس المكان الذي نودي فيه موسى للمرة الأولى في رجوعه من ديار مدين كما تقدم، فالنداء الذي في قوله هنا {إذ نادينا} غير النداء الذي في قوله: {فلما أتاها نودي من شاطىء الواد الأيمن} إلى قوله: {أن يا موسى إني أنا الله} [القصص: 30] الآية لئلا يكون تكرارًا مع قوله: {وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر} [القصص: 44].
وهذا الاحتجاج بما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من خبر استدعاء موسى عليه السلام للمناجاة.
وتلك القصة لم تذكر في هذه السورة وإنما ذكرت في سورة أخرى مثل سورة الأعراف.
وقوله: {ولكن رحمة من ربك} كلمة {لكن} بسكون النون هنا باتفاق القراء فهي حرف لا عمل له فليس حرف عطف لفقدان شرطيه: تقدم النفي أو النهي، وعدم الوقوع بعد واو عطف.
وعليه فحرف {لكن} هنا لمجرد الاستدراك لا عمل له وهو معترض.
والواو التي قبل {لكن} اعتراضية.
والاستدراك في قوله: {ولكن رحمة من ربك} ناشيء عن دلالة قوله: {وما كنت بجانب الطور} على معنى: ما كان علمك بذلك لحضورك، ولكن كان علمك رحمة من ربك لتنذر قومًا ما أتاهم من نذير من قبلك.
فانتصاب {رحمة} مؤذن بأنه معمول لعامل نصب مأخوذ من سياق الكلام: إما على تقدير كون محذوف يدل عليه نفي الكون في قوله: {وما كنت بجانب الطور} والتقدير: ولكن كان علمك رحمة منا؛ وإما على المفعول المطلق الآتي بدلًا من فعله، والتقدير: ولكن رحمناك رحمة بأن علمناك ذلك بالوحي رحمة، بقرينة قوله: {لتنذر قومًا}.
ويجوز أن يكون {رحمة} منصوبًا على المفعول لأجله معمولًا لفعل {لتنذر} فيكون فعل {لتنذر} متعلقًا بكون محذوف هو مصب الاستدراك.
وفي هذه التقادير توفير معان وذلك من بليغ الإيجاز.
وعدل عن: رحمة منا، إلى {رحمة من ربك} بالإظهار في مقام الإضمار لما يشعر به معنى الرب المضاف إلى ضمير المخاطب من العناية به عناية الرب بالمربوب.